سورة الحج - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)}
اعلم أنه تعالى أمر الناس بالتقوى فدخل فيه أن يتقي كل محرم ويتقي ترك كل واجب وإنما دخل فيه الأمران، لأن المتقي إنما يتقي ما يخافه من عذاب الله تعالى فيدع لأجله المحرم ويفعل لأجله الواجب، ولا يكاد يدخل فيه النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب، وإنما يرجو بفعلها الثواب فإذا قال: {اتقوا رَبَّكُمُ} فالمراد اتقوا عذاب ربكم.
أما قوله: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الزلزلة شدة حركة الشيء، قال صاحب الكشاف ولا تخلو الساعة من أن تكون على تقدير الفاعلة لها كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي فتكون الزلزلة مصدراً مضافاً إلى فاعله أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] وهي الزلزلة المذكورة في قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1].
المسألة الثانية: اختلفوا في وقتها فعن علقمة والشعبي أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا وهي التي يكون معها طلوع الشمس من مغربها. وقيل هي التي تكون معها الساعة.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الصور: «إنه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعقة، ونفخة القيام لرب العالمين، وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال وترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، قلوب يومئذ واجفة، وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلق ترجرجه الرياح» وقال مقاتل وابن زيد هذا في أول يوم من أيام الآخرة.
واعلم أنه ليس في اللفظ دلالة على شيء من هذه الأقسام، لأن هذه الإضافة تصح وإن كانت الزلزلة قبلها، وتكون من أماراتها وأشراطها، وتصح إذا كانت فيها ومعها، كقولنا آيات الساعة وأمارات الساعة.
المسألة الثالثة: روى أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل والناس يسيرون فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم، فلم ير باكياً أكثر من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السرج ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور، والناس بين باك وجالس حزين متفكر. فقال عليه السلام: «أتدرون أي ذلك اليوم هو؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذلك يوم يقول الله لآدم عليه السلام قم فابعث بعث النار من ولدك، فيقول آدم وما بعث النار؟ يعني من كم كم؟ فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فعند ذلك يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، فكبر ذلك على المؤمنين وبكوا، وقالوا فمن ينجو يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة، إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثم قال ويدخل من أمتي سبعون ألفاً إلى الجنة بغير حساب، فقال عمر سبعون ألفاً؟ قال نعم ومع كل واحد سبعون ألفاً، فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم، فقام رجل من الأنصار فقال مثل قوله، فقال سبقك بها عكاشة فخاض الناس في السبعين ألفاً فقال بعضهم هم الذين ولدوا على الإسلام، وقال بعضهم هم الذين آمنوا وجاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا فقال: هم الذين لا يكتوون ولا يكوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون».
المسألة الرابعة: أنه سبحانه أمر الناس بالتقوى ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة، والمعنى أن التقوى تقتضي دفع مثل هذا الضرر العظيم عن النفس، ودفع الضرر عن النفس معلوم الوجوب، فيلزم أن تكون التقوى واجبة.
المسألة الخامسة: احتجت المعتزلة بقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيٌء عَظِيمٌ} وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة، واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيء قَدِيرٌ} [البقرة: 20] فالشيء الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجوداً أو معدوماً، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادراً على إيجاد الموجود، وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم فالمعدوم شيء.
واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْء إِنّي فَاعِلٌ ذلك غَداً} [الكهف: 23] أطلق اسم الشيء في الحال على ما يصير مفعولاً غداً، والذي يصير مفعولاً غداً يكون معدوماً في الحال، فالمعدوم شيء والله أعلم والجواب: عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة وهي جواهر قامت بها أعراض وتحقق ذلك في المعدوم محال، فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئاً حال عدمها، فلابد من التأويل بالاتفاق. ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئاً، وهذا هو الجواب عن البواقي.
المسألة السادسة: وصف الله تعالى الزلزلة بالعظيم ولا عظيم أعظم مما عظمه الله تعالى.
أما قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} فهو منصوب بتذهل أي تذهل في ذلك اليوم والضمير في ترونها يحتمل أن يرجع إلى الزلزلة وأن يرجع إلى الساعة لتقدم ذكرهما، والأقرب رجوعه إلى الزلزلة لأن مشاهدتها هي التي توجب الخوف الشديد.
واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر من أهوال ذلك اليوم أموراً ثلاثة أحدها: قوله: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تذهلها الزلزلة والذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة، فإن قيل: لم قال مرضعة دون مرضع؟ قلت المرضعة هي التي في حال الإرضاع وهي ملقمة ثديها الصبي والمرضع شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة، وقوله: {عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل فتكون ما بمعنى من على هذا التأويل.
وثانيها: قوله: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} والمعنى أنها تسقط ولدها لتمام أو لغير تمام من هول ذلك اليوم وهذا يدل على أن هذه الزلزلة إنما تكون قبل البعث، قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام، وقال القفال: يحتمل أن يقال من ماتت حاملاً أو مرضعة تبعث حاملاً أو مرضعة تضع حملها من الفزع، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحمل على جهة المثل كما قد تأول قوله: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17].
وثالثها: قوله: {وَتَرَى الناس سكارى} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرئ (وتري) بالضم تقول أريتك قائماً أو رأيتك قائماً والناس بالنصب والرفع، أما النصب فظاهر، وأما الرفع فلأنه جعل الناس اسم ما لم يسم فاعله وأنثه على تأويل الجماعة، وقرئ (سكرى) و(سكارى)، وهو نظير جوعى وعطشى في جوعان وعطشان، سكارى وسكارى نحو كسالى وعجالى، وعن الأعمش: سكرى وسكرى بالضم وهو غريب.
المسألة الثانية: المعنى وتراهم سكارى على التشبيه {وَمَا هُم بسكارى} على التحقيق، ولكن ما أرهقهم من هول عذاب الله تعالى هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم، وقال ابن عباس والحسن ونراهم سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب، فإن قلت لم قيل أولا (ترون) ثم قيل (ترى) على الإفراد؟ قلنا لأن الرؤية أولاً علقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعاً رائين لها، وهي معلقة آخراً بكون الناس على حال من السكر، فلابد وأن يجعل كل واحد منهم رائياً لسائرهم.
المسألة الثالثة: إن قيل أتقولون إن شدة ذلك اليوم تحصل لكل أحد أو لأهل النار خاصة؟ قلنا قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون. وقيل بل يحصل للكل لأنه سبحانه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، وليس لأحد عليه حق.


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان:
الأول: أخبر تعالى فيما تقدم عن أهوال يوم القيامة وشدتها، ودعا الناس إلى تقوى الله. ثم بين في هذه الآية قوماً من الناس الذين ذكروا في الأول. وأخبر عن مجادلتهم الثاني: أنه تعالى بين أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها، فإن من الناس من يجادل في الله بغير علم، ثم في قوله: {وَمِنَ الناس} وجهان:
الأول: أنهم الذين ينكرون البعث، ويدل عليه قوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} [يس: 77] إلى آخر الآية. وأيضاً فإن ما قبل هذه الآية وصف البعث وما بعدها في الدلالة على البعث، فوجب أن يكون المراد من هذه المجادلة هو المجادلة في البعث والثاني: أنها نزلت في النضر بن الحرث، كان يكذب بالقرآن ويزعم أنه أساطير الأولين، ويقول ما يأتيكم به محمد كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
المسألة الثانية: هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة هي المراد من قوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} [الزخرف: 58] والمجادلة الحقة هي المراد من قوله: {وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
المسألة الثالثة: في قوله: {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ} قولان:
أحدهما: يجوز أن يريد شياطين الإنس وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني: أن يكون المراد بذلك إبليس وجنوده، قال الزجاج المريد والمارد المرتفع الأملس، يقال صخرة مرداء أي ملساء، ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز حد مثله.
أما قوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ} ففيه وجهان:
أحدهما: أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب إضلال من عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله والثاني: كتب عليه في أم الكتاب، واعلم أن هذه الهاء بعد ذكر من يجادل وبعد ذكر الشيطان، يحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد منهما، فإن رجع إلى من يجادل فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد، فكأنه قال كتب على من يتبع الشيطان أنه من تولى الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار. وذلك زجر منه تعالى فكأنه تعالى قال كتب على من هذا حاله أنه يصير أهلاً لهذا الوعيد، فإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال. وعلى هذا الوجه أيضاً يكون زجراً عن اتباعه، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي عبد الجبار إذا قيل المراد بقوله: {كُتِبَ عَلَيْهِ} قضى عليه فلا جائز أن يرد إلا إلى من يتبع الشيطان، لأنه تعالى لا يجوز أن يقضي على الشيطان أنه يضل، ويجوز أن يقضي على من يقبله بقوله، قد أضله عن الجنة وهداه إلى النار.
قال أصحابنا رحمهم الله لما كتب ذلك عليه فلو لم يقع لانقلب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محال ومستلزم المحال محال، فكان لا وقوعه محالاً.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن المجادل في الله إن كان لا يعرف الحق فهو مذموم معاقب، فيدل على أن المعارف ليست ضرورية.
المسألة الثالثة: قال القاضي فيه دلالة على أن المجادلة في الله ليست من خلق الله تعالى وبإرادته، وإلا لما كانت مضافة إلى اتباع الشيطان، وكان لا يصح القول بأن الشيطان يضله بل كان الله تعالى قد أضله والجواب: المعارضة بمسألة العلم وبمسألة الداعي.
المسألة الرابعة: قرئ (أنه) بالفتح والكسر فمن فتح فلأن الأول فاعل كتب والثاني عطف عليه، ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو كأنما كتب عليه هذا الكلام، كما يقول كتبت أن الله هو الغني الحميد، أو على تقدير قيل أو على أن كتب فيه معنى القول.


{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}
القراءة قرأ الحسن {مّنَ البعث} بالتحريك ونظيره الحلب والطرد في الحلب وفي الطرد {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} بجر التاء والراء، وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما القراءة المعروفة بالنون في قوله: {لّنُبَيّنَ} وفي قوله: {وَنُقِرُّ} وفي قوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} ابن أبي عبلة بالياء في هذه الثلاثة، أما القراءة بالنون ففيها وجوه:
أحدها: القراءة المشهورة.
وثانيها: روى السيرافي عن داود عن يعقوب ونقر بفتح النون وضم القاف والراء وهو من قر الماء إذا صبه، وفي رواية أخرى عنه كذلك إلا أنه بنصب الراء.
وثالثها: ونقر ونخرجكم بنصب الراء والجيم أما القراءة بالياء ففيها وجوه:
أحدها: يقر ويخرجكم بفتح القاف والراء والجيم.
وثانيها: يقر ويخرجكم بضم القاف والراء والجيم.
وثالثها: بفتح الياء وكسر القاف وضم الراء أبو حاتم {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} بفتح الياء أي يتوفاه الله تعالى ابن عمرة والأعمش {العمر} بإسكان الميم القراءة المعروفة {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر} وفي حرف عبدالله ومنكم من يتوفى ومنكم من يكون شيوخاً بغير القراءة المعروفة وربت أبو جعفر وربأت أي ارتفعت، وروى العمري عنه بتليين الهمزة وقرئ وأنه باعث.
المعاني: اعلم أنه سبحانه لما حكى عنهم الجدال بغير العلم في إثبات الحشر والنشر وذمهم عليه فهو سبحانه أورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين:
أحدهما: الاستدلال بخلقة الحيوان أولاً وهو موافق لما أجمله في قوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] وقوله: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] فكأنه سبحانه وتعالى قال: إن كنتم في ريب مما وعدناكم من البعث، فتذكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولاً قادر على خلقكم ثانياً، ثم إنه سبحانه ذكر من مراتب الخلقة الأولى أموراً سبعة: المرتبة الأولى: قوله: {فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ} وفيه وجهان:
أحدهما: إنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه السلام من تراب، لقوله: {كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] وقوله: {مِنْهَا خلقناكم} [طه: 55]، والثاني: أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية، والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي قطعاً للتسلسل إلى النبات، والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله: {إِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ} المرتبة الثانية: قوله: {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} والنطفة اسم للماء القليل أي ماء كان، وهو هاهنا ماء الفحل فكأنه سبحانه يقول: أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس ماء لطيفاً، مع أنه لا مناسبة بينهما ألبتة المرتبة الثالثة: قوله: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} العلقة قطعة الدم الجامدة، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة المرتبة الرابعة: قوله: {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَاءُ} فالمضغة اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ، والمخلقة المسواة الملساء السالمة من النقصان والعيب، يقال خلق السواك والعود إذا سواه وملسه، من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء. ثم للمفسرين فيه أقوال: أحدها: أن يكون المراد من تمت فيه أحوال الخلق ومن لم تتم، كأنه سبحانه قسم المضغة إلى قسمين: أحدهما: تامة الصور والحواس والتخاطيط وثانيهما: الناقصة في هذه الأمور فبين أن بعد أن صيره مضعة منها ما خلقه إنساناً تاماً بلا نقص ومنها ما ليس كذلك وهذا قول قتادة والضحاك، فكأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فتبع ذلك التفاوت، تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم.
وثانيها: المخلقة الولد الذي يخرج حياً وغير المخلقة السقط وهو قول مجاهد.
وثالثها: المخلقة المصورة وغير المخلقة أي غير المصورة وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وتشكيل واحتجوا بما روى علقمة عن عبدالله قال: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً وقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال مخلقة، قال يا رب فما صفتها، أذكر أم أنثى، ما رزقها، ما أجلها، أشقى، أم سعيد؟ فيقول الله سبحانه انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق الملك فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها.
ورابعها: قال القفال: التخليق مأخوذ من الخلق فما تتابع عليه الأطوار وتوارد عليه الخلق بعد الخلق فذاك هو المخلق لتتابع الخلق عليه، قالوا فما تم فهو المخلق وما لم يتم فهو غير المخلق، لأنه لم يتوارد عليه التخليقات.
والقول الأول أقرب لأنه تعالى قال في أول الآية: {فَإِنَّا خلقناكم} وأشار إلى الناس فيجب أن تحمل مخلقة وغير مخلقة على من سيصير إنساناً وذلك يبعد في السقط لأنه قد يكون سقطاً ولم يتكامل فيه الخلقة فإن قيل هلا حملتم ذلك على السقط لأجل قوله: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَاء} وذلك كالدلالة على أن فيه مالا يقره في الرحم وهو السقط، فلنا إن ذلك لا يمنع من صحة ما ذكرنا في كون المضغة مخلقة وغير مخلقة، لأنه بعد أن تمم خلقة البعض ونقص خلقة البعض لا يجب أن يتكامل ذلك بل فيه ما يقره الله في الرحم وفيه مالا يقره وإن كان قد أظهر فيه خلقة الإنسان فيكون من هذا الوجه قد دخل فيه السقط.
أما قوله تعالى: {لّنُبَيّنَ لَكُمْ} ففيه وجهان:
أحدهما: لنبين لكم أن تغيير المضغة إلى المخلقة هو باختيار الفاعل المختار، ولولاه لما صار بعضه مخلقاً وبعضه غير مخلق وثانيهما: التقدير إن كنتم في ريب من البعث فإنا أخبرناكم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبين لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزاً عن الإعادة.
أما قوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَاءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فالمراد منه من يبلغه الله تعالى حد الولادة، والأجل المسمى هو الوقت المضروب للولادة وهو آخر ستة أشهر، أو تسعة، أو أربع سنين أو كما شاء وقدر الله تعالى فإن كتب ذلك صار أجلاً مسمى المرتبة الخامسة: قوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} وإنما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ويحتمل أن يخرج كل واحد منكم طفلاً كقوله: {وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] المرتبة السادسة: قوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} والأشد كمال القوة والعقل والتمييز وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد وكأنها شدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع، والمراد والله أعلم ثم سهل في تربيتكم وأغذيتكم أموراً لتبلغوا أشدكم فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ويكون بين الحالتين وسائط، وذكر بعضهم أنه ليس بين حال الطفولية وبين ابتداء حال بلوغ الأشد واسطة حتى جوز أن يبلغ في السن ويكون طفلاً كما يكون غلاماً ثم يدخل في الأشد المرتبة السابعة: قوله: {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} والمعنى أن منكم من يتوفى على قوته وكماله، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف، فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم.
فإن قيل كيف قال: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} مع أنه يعلم بعض الأشياء كالطفل؟ قلنا المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئاً لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي لأجل المبالغة، ومن الناس من قال هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى: {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} وهو ضعيف. لأن معنى قوله: {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} [التين: 5] هو دلالة على الذم فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة ولذلك قال: {إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] فهذا تمام الاستدلال بحال خلقة الحيوان على صحة البعث الوجه الثاني: الاستدلال بحال خلقة النبات على ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} وهمودها يبسها وخلوها عن النبات والخضرة {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ} والاهتزاز الحركة على سرور فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع فقوله: {اهتزت وَرَبَتْ} أي تحركت بالنبات وانتفخت.
أما قوله: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فهو مجاز لأن الأرض ينبت منها والله تعالى هو المنبت لذلك، لكنه يضاف إليها توسعاً، ومعنى {مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من كل نوع من أنواع النبات من زرع وغرس، والبهجة حسن الشيء ونضارته، والبهيج بمعنى المبهج قال المبرد وهو الشيء المشرق الجميل، ثم إنه سبحانه لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة وذكر أموراً خمسة أحدها: قوله ذلك: {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} والحق هو الموجود الثابت فكأنه سبحانه بين أن هذه الوجوه دالة على وجود الصانع وحاصلها راجع إلى أن حدوث هذه الأمراض المتنافية وتواردها على الأجسام يدل على وجود الصانع.
وثانيها: قوله تعالى: {وأنه يحيي الموتى} فهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات.
وثالثها: قوله: {وَأَنَّهُ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يعني أن الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لابد وأن يكون واجب الإنصاف لذاته بالقدرة ومن كان كذلك كان قادراً على جميع الممكنات ومن كان كذلك فإنه لابد وأن يكون قادراً على الإعادة.
ورابعها: قوله: {وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور} والمعنى أنه لما أقام الدلائل على أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه وتعالى قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادراً على الإعادة في نفسها، وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه فلابد من القطع بوقوعه، واعلم أن تحرير هذه الدلالة على الوجه النظري أن يقال الإعادة في نفسها ممكنة والصادق أخبر عن وقوعها فلابد من القطع بوقوعها، أما بيان الإمكان فالدليل عليه أن هذه الأجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات التي كانت قائمة بها حال كونها حية عاقلة والبارئ سبحانه عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات الممكنة وذلك يقتضي القطع بإمكان الإعادة لما قلنا إن تلك الإجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات لأنها لو لم تكن قابلة لها في وقت لما كانت قابلة لها في شيء من الأوقات لأن الأمور الذاتية لا تزول، ولو لم تكن قابلة لها في شيء من الأوقات لما كانت حية عاقلة في شيء من الأوقات، لكنها كانت حية عاقلة فوجب أن تكون قابلة أبداً لهذه الصفات.
وأما أن البارئ سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن فلأنه سبحانه عالم بكل المعلومات فيكون عالماً بأجزاء كل واحد من المكلفين على التعيين وقادراً على كل الممكنات، فيكون قادراً على إيجاد تلك الصفات في تلك الذوات. فثبت أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن. فثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها. فإذا أخبر الصادق عن وقوعها فلابد من القطع بوقوعها، فهذا هو الكلام في تقرير هذا الأصل.
فإن قيل فأي منفعة لذكر مراتب خلقة الحيوانات وخلقة النبات في هذه الدلالة؟ قلنا إنها تدل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات وعالم بكل المعلومات، ومتى صح ذلك فقد صح كون الإعادة ممكنة فإن الخصم لا ينكر المعاد إلا بناء على إنكار أحد هذين الأصلين، ولذلك فإن الله تعالى حيث أقام الدلالة على البعث في كتابه ذكر معه كونه قادراً عالماً كقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] فقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا} بيان للقدرة وقوله: {وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} بيان للعلم والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8